الأربعاء، يونيو ٠٦، ٢٠٠٧

عم حسين والدرن المتين

في يوم عاصف شديد الرياح والشمس غائبة وراء السحب الكثيفة.دخل عصعص وجعلص حجرة عم حسين العامل البسيط . كانت حجرة عم حسين صغيرة وضيقة يقطن بها هو وزوجته الست فاطمة و أولاد هما الأربعة ، وهي حجرة مظلمة اغلب الوقت لا تدخلها الشمس وتملأها الرطوبة. حملت الرياح عصعص وجعلص إلى هذه الغرفة وهما متقوقعان كل منهما داخل حوصلة دائرية صغيرة. قال عصعص وهو يخرج من حوصلته:- يااااااااااه أخيرا لقينا مكان مضَلم و الهوا فيه رطب وجميل كده علشان نخرج فيه من الخنقة اللي كنا فيها! فأجابه جعلص وهو يحرك يديه في حركات رياضية:- عندك حق يا عصعوص الواحد من زمان مفردش طوله وشاف نفسه كده و شم شوية هوا وجابله شوية عصاعيص صغيرين يلعب معاهم. وبعد فترة صمت قصيرة قال جعلص فجأة وهو ينظر حوله متمعنا : إلا قولي يا عصعص إحنا فين دلوقت ؟؟ فأجابه عصعص ونبرات صوته ترقص من الفرحة: إحنا في مصر يا جعلص ....... تصور.... في مصر أم الدنيا. قال جعلص وقد سرت إليه الفرحة و امتلأت نفسه بالأمل :- صحيح يا عصعص؟! ده إحنا على كده هنشتغل جامد قوي. فأجابه عصعص : عندك حق يا جعلوص الناس هنا هيساعدونا على الآخر وهيريحونا كمان. وفجأة سمع الاثنان صوت أقدام تقترب من الباب ، فجرى كل منهما ليختبأ بعيدا عن صوت الأقدام. ****************** دخل عم حسين الرجل الطويل النحيل إلى الغرفة وقد بدا عليه التعب الشديد و الإرهاق وقال مخاطبا نفسه: يااااه اليوم النهاردة كان متعب جوي جوي ، يدوبك الواحد يتخمد ، والله ماني جادر اجوم آكل حتى ، وينها فاطمة كان زمانها محضرة الوكل و موضبة الاوضة؟! ثم بصق عم حسين على ارض الغرفة وتمدد على سريره ونام نوما عميقا. ****************** و ما إن سمع عصعص و جعلص صوت شخير عم حسين حتى خرج كل منهما من مكانه وعادا للحديث مره أخرى. و قال عصعص وقد بدا على صوته علامات التفكير العميق : اسمعني كويس يا جعلص إحنا لازم نخطط كويس علشان نعرف هندخل للراجل ده منين. فأجاب جعلص في غير اهتمام وقد بدا عليه الكسل والخمول: يا عم تخطيط إيه ، ده راجل واضح انه هيساعدنا جدا مشفتش عمل إيه قبل ما ينام ، يعني ده لما نعديه هيعدي كل اللي حواليه. فقال عصعص وقد بدا في صوته الغضب الشديد: ماهو علشان كده لازم نخطط كويس يا غبي علشان ميفلتش من ايدينا، وبعدين أنت لحد امتى هتفضل كده ؟ هتودينا في داهية بغبائك ده. فهجم جعلص على عصعص وكاد أن يدهسه وهو يقول: بقى أنا غبي ... ماشي هوريك يا عصعص ... أنا هخلَص عليك دلوقت . فأجاب عصعص بصوت مخنوق : حاسب شوية ....وسع كده .... إيه ده كنت هتموتني يا أخي. فابتعد عنه جعلص قائلا في حده: علشان تعرف أنا اقدر اعمل إيه؟ رد عليه عصعص وهو ينهض واقفا وبعد نفس عميق: هه هو ده عيبك يا جعلص كل حاجة عندك بالدراع. إحنا لازم نفكر شوية قبل ما نعمل أي حاجة. خلاص خلينا في اللي إحنا فيه. وملكش دعوة بية. كذلك قال جعلص وهو يشيح بوجهه عن عصعص فبدت علامات التفكير العميق على وجه عصعص وظل صامتا لفترة. ثم قال: واضح جدا إن الراجل ده قاعد لوحده اليومين دول وإحنا لازم نستغل الفرصة دي ،محدش عارف مرآته دي مش جايز تكون ست نضيفة ومهتمة ببيتها ونظافته؟؟ فقال جعلص في سخرية واضحة: يعني هنعمل إيه يعني ؟هنخليه يشمنا غصب عنه؟! وبعد فترة صمت طويلة بينهما استغرق عصعص خلالها في التفكير .قال عصعص فجأة وفي صوته كل علامات النصر: إحنا نروح نقعد ناحية الباب علشان لما يفتح ويدخل شوية هوا يقوم ياخدنا في سكته ونعرف ندخل للراجل القطة ده. فأجابه جعلص وقد برقت عيناه : طول عمرك داهية يا عصعص . ثم اخذ كل منهما موقعه ناحية باب الغرفة في انتظار الصباح. وفي الصباح استيقظ عم حسين من نومه واعتدل في سريره دون أن يتكلم ،فقال عصعص لجعلص بلغة المحمس والمحفز: استعد يا جعلص الراجل صحي خلاص وأكيد دلوقت هيخرج من الاوضة، وخد بالك ليدوسك لازم تبعد عن طريق خطواته وتخليك في اتجاه الريح علشان الهوا يشيلك على مناخيره عدل. فهز جعلص رأسه علامة الموافقة. ***************** نهض عم حسين من سريره ومشى متجها إلى باب الغرفة ثم عاد فجأة إلى السرير باحثا عن محفظته قائلا: هي راحت وين البتاعة دي ؟ أني عاوز أروح اشتري حاجة آكلها. ثم وجدها تحت وسادته فقال : الحمد لله حجى لو مكنتش لجيتها دي كانت تبجى مصيبة. واتجه عائدا ناحية الباب وفتحه ودخل بعض الهواء إلى الغرفة و استنشقه عم حسين، وكان الهواء يحمل عصعص و جعلص بكتريا الدرن الرئوية فيما يحمل من جراثيم وبكتريا أخرى. و بذلك انتقلت العدوى إلى عم حسين. ***************** وفي داخل جسم عم حسين اخذ عصعص و جعلص يبحثان عن مكان مريح ،فدخلا إلى رئة عم حسين اليمنى و أخذا يرتاحا في إحدى الحويصلات الهوائية الصغيرة. وبعد فترة بدأ عصعص الحديث قائلا: واضح إن عم حسين ده تعبان قوي شايف رئته عاملة ازاي ؟ده هيساعدنا جدا. فأجابه جعلص في هدوء وهو يشير إلى بؤرة في الأسفل : عندك حق يا عصعص ، ده يظهر إن في عصاعيص قرايبنا هناك اهية بس يظهر إنها خاملة. فهز عصعص رأسه علامة الموافقة ثم قال : صحيح دول كمان ممكن يساعدونا جدا بس أما نعمل اللي علينا الأول . فسأل جعلص باهتمام : وإيه هو اللي علينا نعمله بقى يا عصعوص؟ فأجابه عصعص بلهجة الخبير العارف: أولا إحنا لازم نكتر عددنا علشان نقدر نواجه كرات الدم البيضاء اللي هتواجهنا ونتغلب عليها. ثم صمت منتظرا رد جعلص. فسأله جعلص : وثانيا؟؟؟ فأجابه عصعص : ثانيا: نكون مركز لينا يكون بؤرة لانتشارنا في جميع أنحاء جسم عم حسين علشان نعرف نستفيد. فقال جعلص : تمام تمام كل كلامك حكم يا عصعوص ، يلا بينا نشتغل بقى. و أخذ كل من هما يتكاثر بقدر المستطاع حتى وصلا إلى أعداد هائلة من عصيات الدرن الرئوية. وفجأة تنبه جهاز عم حسين المناعي و أخذت أعداد هائلة من كرات الدم البيضاء تتجه ناحية بكتريا الدرن الرئوية، و دارت معركة كبيرة بينهما انتصرت فيها البكتريا بقيادة عصعص و جعلص و انهزمت كرات الدم البيضاء بقيادة الخلايا الليمفاوية. وبذلك تكونت البؤرة الدرنية الأولى في رئة عم حسين. *************** عاد عم حسين إلى منزله ليلا –بعد أن انتهى من عمله- وهو يشعر بالارتفاع في درجة الحرارة و التعب الشديد والإرهاق، وعندما فتح باب الغرفة وجد امرأته وأولاده و جرى ولده الصغير ناحيته و تعلق به قائلا: أبوية جه أبوية جه . فحمله عم حسين وهو يقول مخاطبا امرأته: حمد لله على السلامة ، رجعتوا ميتى من البلد ؟ وأهل البلد أخبارهم إيه؟ فأجابته زوجته في حنان و إشفاق لحاله وهي تأخذ الولد من يديه: رجعنا بعد الضهر ، و كلاتهم كويسين وبيسلموا عليك. ثم اتجهت ناحية موقد صغير في ركن من أركان الغرفة و هي تقول: احضر لك الوكل ؟ دول باعتين معايا فطير مشلتت و دكر بط إنما إيه يستاهلو خشمك . فأجابها زوجها وهو يشير لأولاده ليتحركوا عن السرير: لا يا فاطمة أني مليش نفس آكل دلوكيت ، أني هنام والصبح ابجى آكل جبل مانزل الشغل، كلي أنت والعيال. فقالت فاطمة وقد أصابتها الحسرة وخيبة الأمل: على راحتك ، جوموا يا ولاد خلو ابوكوا يعرف ينام و يلا علشان تاكلوا وتناموا انتوا كمان. ******************* وفي الصباح استيقظ عم حسين استيقظ عم حسين ونحى ولده الصغير جانبا ليستطيع أن ينهض من السرير. و كانت زوجته قد استيقظت من قبل و انهمكت إعداد طعام الإفطار و وضعه على الطبلية . ثم أيقظت أولادها والتفوا جميعا حول الطبلية وانهمكوا في الطعام وبقى عم حسين جالسا لا يأكل إلا القليل. فنظرت إليه زوجته وقالت: مالك يا حسين مبتاكلش ليه عاد؟ فأجابها بصوت متعب: مفيش حاجة يا فاطمة ، أني بس مليش نفس للوكل . ثم نهض وارتدى جلبابه ليذهب إلى عمله ،و من بعده نهض ولديه الصغيرين و ارتديا الزى المدرسي وتوجها إلى مدرستهما في حين ذهب ولديه الآخرين إلى أعمالهما . و انشغلت فاطمة طوال النهار بتنظيف الغرفة وتهويتها وقالت مخاطبة نفسها في عجب : هو حسين مفتحش الشباك طول التلات أيام اللي أنا سفرتهم مع العيال؟! ****************** و في داخل جسم عم حسين و بالأخص داخل رئته اليمنى كانت البكتريا تتكاثر وتنشط وتكون بؤرا أخرى للدرن . و قال عصعص لجعلص في فخر: شوفت يا جعلص إحنا قدرنا نعمل إيه؟ شوفت هزمنا الكرات البيضاء و خليناهم يرجعوا متكسرين ازاي؟ فقال جعلص وقد علت وجهه ابتسامة كبيرة: يا أخي أنا عمري ما كنت أتخيل إننا نعمل كل ده في فترة قليلة كده، ده إحنا حققنا نصر عظيم. فقال عصعص وقد ملأ صوته الجد والاهتمام: و علشان كده بقى يا جعلص إحنا لازم نخطط للفترة الجاية كويس. فسأله جعلص: و هنعمل إيه بقى في الفترة الجاية يا عصعوص؟ فهز عصعص رأسه و قال : إحنا لازم ننتشر كويس في جسم عم حسين الفترة الجاية دي، و بعدين المهمة التانية إننا نبدأ نخرج من جسمه علشان نعدي اللي حواليه. و سكت وقد امتلأت عيناه بالشر. وأخذ كل منهما يتخيل نفسه وهو ينتقل من فم عم حسين وأنفه عن طريق الرذاذ إلى شخص آخر و يعيد نفس الكرة مرة أخرى. ******************* و بعد مرور ثلاثة أسابيع استمر خلالها عم حسين في فقدان الشهية مما أدى إلى نقص شديد في وزنه ، وكان أحيانا يشعر بارتفاع في درجة الحرارة أثناء الليل مع عرق شديد، بالإضافة إلى سعال وآلام بالصدر وبصاق دموي. و كانت زوجته خلال هذه الأسابيع تطلب منه التوجه إلى المستوصف للكشف والعلاج لكنه كان يرفض ويقول لها: دول شوية برد وهيروحوا يا فاطمة أنت عايزة الدكاترة يجولوا علية بتدلع؟! فتسكت فاطمة ولا تتكلم. و استمر الحال لمدة أسبوعين آخرين كان خلالهما عصعص و جعلص قد انتقلا إلى زوجة عم حسين بعد أن انتشرت البكتريا داخل جسم عم حسين إلى رئته اليسرى وإلى الدم وأصبحت في جميع أنحاء الجسم. ****************** و في ذات يوم سقط عن حسين مغشيا عليه في عمله فنقله زملاؤه إلى المستوصف القريب من العمل فبدأ الطبيب بالكشف عليه بعد أن أفاقه من غيبوبته. ثم قام بإجراء بعض الفحوصات الطبية له ، فاكتشف أن عم حسين مصاب بمرض الدرن الرئوي فأخذ يحدثه عن المرض وعن أهمية الاستمرار في العلاج قائلا: شوف يا عم حسين اللي أنت عملته في نفسك ده حرام ، ازاي يا راجل تسيب نفسك كده كل المدة دي؟ فأجاب عم حسين وقد بدا الحزن والحسرة على وجهه: يا سعادة الدكتور أني كنت فاكرهم شوية برد وهيروحوا لحالهم. فقال الطبيب في هدوء: على العموم يا عم حسين متخفش الدرن بقى له علاج كويس قوي و هتخف إن شاء الله بس بشرط. فقاطعه عم حسين قائلا في لهفة : و إيه الشرط ده يا دكتور؟ فأجاب الطبيب و قد علت وجهه ابتسامة: انك تيجي كل يوم وتخليني اكشف عليك و اتابعك لمدة خمس ست شهور. و استرسل الطبيب في حديثه قائلا: و في كمان حاجة مهمة جدا انك تجيب لي مراتك وعيالك علشان اكشف عليهم و نطمن عليهم. فأطرق عم حسين وقال : مفيش حاجة تانية يا دكتور؟ فأجاب الطبيب : ايوة ، كمان لازم تبطل تتف على الأرض و أوعى تكح أو تعطس في وش حد. و عندما عاد عم حسين إلى بيته و هو مهموم اخبر زوجته ما حدث ثم أخذها و أولاده إلى المستوصف ليطمئن عليهم فوجدهم الأطباء غير مصابين بالمرض فقاموا بإجراء اختبار التيوبركلين لهم ثم أعطوا الأطفال مصل ال بي سي جي . و بعد مرور ستة اشهر كان خلالها عم حسين منتظما في الذهاب إلى المستوصف للعلاج بالجرعات السليمة وامتنع عن عاداته السيئة وكانت زوجته تعمل على تهوية الغرفة كل يوم وتنظيفها ،شفي عم حسين و عاد إلى عمله أكثر قوة ونشاطا. تمت بحمد الله
dr.simsima